هَل قرأت يوماََ عَن شعر المتنبي، إذا لم يُحالف الحظ ولم تتطرّق يوماََ لأن تتعرف على ذاك الشعر القوى أو عَلى هواجسه وتداعِياته الواسِعة، والتي لها الكثير من الأوجه والعديد مِن الصفات التي تَرمي بِمَن يَعشق ويُفضّل العشق إلى ساحل الحُب، وساحل الغرام بلا رحمة حتى يُنادي العشيق أغرقُوني بالحب، فلم يبقى لي ها هُنا سوى العشق، ويا ليت هَذا الشعر بمسموع مِن الطّيف الأكبر مِن العاشقين الذين يَبحثُون عن الكلمات السّلِسَة، في حِين أنّ شعر المتنبي في وَصف الحب من أجمل ومن أرقى الكلمات التي تتمثل في الحب والعشق.
نبذة عن شعر المتنبي
مِمّا لا شكّ فيه أنّ شعر المتنبي واحد من الأشعار القديمة التِي نَلتقِي عَلى ضِفاف جمالها، حيث لنرى فيها الكثير من عَبقِ الجمال وحسنه، والكثير الكثير من الإلمام بكلماته.
من هو المتنبي
صفحات التاريخ تزخَر بما قد قاله المتنبي من حِكم، ومن عبارات، ومن شعر ومن خلجات، حتى بات شعر المتنبي واحِد من أهمّ التعريفات الخالصة بالجمال، وعن المتنبي بشكلِِ خَاص نجد أنّه أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد أبو الطيب الكندي، وُلِد في الكوفة سنة 303ه، نُسب إلى قبيلة كنده لولادته بهَذه القبيلة في مدينة الكوفة وليس لانتمائه لهُم، كان ملُازمََا لبلاط سيف الدولة الحمداني فِي مدينة حلب في سوريا، ويعتبر المتنبي من أعظم شعراء العرب، وكان مُتمكناً من اللغة العربية وقواعدها وبهذا أصبح من أفصح شعراء العرب، سُمّيَ بألقابِِ كثيرة، منها: أعجوبة عصره، نادرة زمانه.
صفات المتنبي
فِي شخصية المتنبي الكثير والعَدِيد من الصفات التي قلّما تَجِدُ نَظيرََا لها فِي بَيادر الشخصيات في العصر القديم، أو في العصر الحديث.
- صاحب كبرياء وشجاع وطموح.
- محب للمغامرات.
- كان في شعره يفتخر بعروبته و بنفسه.
- أفضل شعره كان في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك.
- شعره لا يقوم على التكلف والصنعة، وإنّما على المدح.
- كان يمتلك احاسيس و ناصية لغة وبيان عالية، ممّا أضفَى على أشعاره لوناً من الجمال والعذوبة.
مميزات شعر المتنبي
كل شَاعر له لمسة خَاصّة في شعره، لا سيّما ذاك الشعر الذي نهتمّ بِه ونُفضّله، ونرى أنّه واحد من أهم الكلمات المُعبّرة والمُميزات المميزة كما يَتضّح هنا:
- المدح: ومن أشهر الأشخَاص الذين تميز في مدحهم : سَيف الدولة الحَمداني حيث بلغت أشعار مدحه ثُلث شعر المتنبي أو أكثر، وكافور الإخشِيدي، وقَد إِستعلى عن مدح كثير من الولاة والقواد حتى في حداثته.
- الهجاء: لم يُكثِر المتنبي من الهجاء؛ وكان في هجائه يكتُب حكم، و يجعلها قواعد عامة تخضع لمبدأ أو خلق، وكَثيراً ما يلجأ إلى السخرية واستعمال ألقاب تحمل في موسيقاها معناها.
- الوصف: أتقنَ المتنبي وصف المعارك والحروب البارزة التي حصلت في عصره، كما أنّه وصف الطبيعة، وأخلاق الناس، كما صوّر نفسه وطُموحه.
- كما اشتهر بالرّثاء، الحِكمَة و الفخر.
اجمل ابيات المتنبي
قد خطّت كِلتا يديّ المتنبي أجمَل العبارات وأكثرها حسنََا وجمالََا فِي خضم الكلمات السامقة، والحروف النامقة التي لها جمال كبير كما يلي:
جازَ الأُُلى ملكت كفاك قدرهمُ *** فعرفـوا بك أن الكلب فوقهـمُ
لا شيءَ أقبحَ مِن فحلٍ له ذكـر*** تقـوده أمةٌ ليسـت لها رحـمُ
ساداتُ كلّ أناسٍ من نفوسهـمُ *** وسادةُ المسلميـنَ الأَعبد القـزمُ
أغايةُ الدّينِ أنْ تَحفوا شواربكـم *** يا أُمةٌ ضحكت من جهلها الأممُ
ألا فتـى يورد الهندي هامتـه *** كيما تزول شكوك الناس والتُهمُ
فإنه حجة يؤذي القلـوب بـها *** من دينه الدهر والتعطيل والقـدمُ
ما أقـدر الله أن يخزي خليقتـه *** ولا يصدق قوما في الذي زعموا
وَاحَـرّ قَلْبـاهُ مـمّنْ قَلْبُـهُ شَبِـمُ *** وَمَنْ بجِسْمـي وَحالي عِنـدَهُ سَقَـمُ
ما لي أُكَتِّمُ حُبًّا قَدْ بَـرَى جَسَـدي*** وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلـةِ الأُمَـمُ
إنْ كَـانَ يَجْمَعُنَـا حُـبٌّ لِغُرّتِـهِ *** فَلَيْتَ أنّـا بِقَـدْرِ الحُـبّ نَقْتَسِـمُ
قد زُرْتُهُ وَسُيُـوفُ الهِنْـدِ مُغْمَـدَةٌ *** وَقـد نَظَـرْتُ إلَيْـهِ وَالسّيُـوفُ دَمُ
فكـانَ أحْسَـنَ خَلـقِ الله كُلّهِـمِ *** وَكانَ أحسنَ ما فِي الأحسَنِ الشّيَـمُ
فَوْتُ العَـدُوّ الـذي يَمّمْتَـهُ ظَفَـرٌ *** فِـي طَيّـهِ أسَـفٌ فِي طَيّـهِ نِعَـمُ
قد نابَ عنكَ شديدُ الخوْفِ وَاصْطنعتْ *** لَكَ المَهـابَـةُ ما لا تَصْنَـعُ البُهَـمُ
ألزَمْتَ نَفْسَكَ شَيْئـاً لَيـسَ يَلزَمُهـا *** أنْ لا يُـوارِيَهُـمْ أرْضٌ وَلا عَـلَـمُ
أكُلّمَا رُمْتَ جَيْشـاً فانْثَنَـى هَرَبـاً *** تَصَرّفَـتْ بِـكَ فِي آثَـارِهِ الهِمَـمُ
عَلَيْـكَ هَزْمُهُـمُ فِي كـلّ مُعْتَـرَكٍ *** وَمَا عَلَيْـكَ بِهِمْ عَـارٌ إذا انهَزَمُـوا
أمَا تَرَى ظَفَراً حُلْـواً سِـوَى ظَفَـرٍ*** تَصافَحَتْ فيهِ بِيضُ الـهِنْدِ وَاللِّمـمُ
يا أعدَلَ النّـاسِ إلاّ فِـي مُعامَلَتـي*** فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَـمُ
أُعِيذُهـا نَظَـراتٍ مِنْـكَ صادِقَـةً *** أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمـهُ وَرَمُ
وَمَا انْتِفَـاعُ أخـي الدّنْيَـا بِنَاظِـرِهِ *** إذا اسْتَوَتْ عِنْـدَهُ الأنْـوارُ وَالظُّلَـمُ
سَيعْلَمُ الجَمعُ مـمّنْ ضَـمّ مَجلِسُنـا *** بأنّني خَيـرُ مَنْ تَسْعَـى بـهِ قَـدَمُ
أنَا الذي نَظَـرَ الأعْمَـى إلى أدَبـي *** وَأسْمَعَتْ كَلِماتـي مَنْ بـهِ صَمَـمُ
أنَامُ مِلْءَ جُفُونـي عَـنْ شَوَارِدِهَـا *** وَيَسْهَـرُ الخَلْـقُ جَرّاهَـا وَيخْتَصِـمُ
وَجاهِلٍ مَـدّهُ فِي جَهْلِـهِ ضَحِكـي *** حَتَّـى أتَتْـه يَـدٌ فَـرّاسَـةٌ وَفَـمُ
إذا رَأيْـتَ نُيُـوبَ اللّيْـثِ بـارِزَةً *** فَـلا تَظُـنّـنّ أنّ اللّيْـثَ يَبْتَسِـمُ
وَمُهْجَةٍ مُهْجَتـي من هَمّ صَاحِبـها *** أدرَكْتُـهَا بجَـوَادٍ ظَـهْـرُه حَـرَمُ
رِجلاهُ فِي الرّكضِ رِجلٌ وَاليدانِ يَـدٌ *** وَفِعْلُـهُ مَا تُريـدُ الكَـفُّ وَالقَـدَمُ
وَمُرْهَفٍ سرْتُ بينَ الجَحْفَلَيـنِ بـهِ *** حتَّى ضرَبْتُ وَمَوْجُ المَـوْتِ يَلْتَطِـمُ
ألخَيْـلُ وَاللّيْـلُ وَالبَيْـداءُ تَعرِفُنـي *** وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَـمُ
صَحِبْتُ فِي الفَلَواتِ الوَحشَ منفَـرِداً ***.حتى تَعَجّبَ منـي القُـورُ وَالأكَـمُ
يَا مَـنْ يَعِـزّ عَلَيْنَـا أنْ نُفَارِقَهُـمْ *** وَجدانُنا كُلَّ شـيءٍ بَعدَكـمْ عَـدَمُ
مَا كـانَ أخلَقَنَـا مِنكُـمْ بتَكرِمَـةٍ *** لَـوْ أنّ أمْرَكُـمُ مِـن أمرِنَـا أمَـمُ
إنْ كـانَ سَرّكُـمُ ما قالَ حاسِدُنَـا *** فَمَـا لجُـرْحٍ إذا أرْضـاكُـمُ ألَـمُ
وَبَيْنَنَـا لَـوْ رَعَيْتُـمْ ذاكَ مَعـرِفَـةٌ *** إنّ المَعارِفَ فِي أهْـلِ النُّهَـى ذِمَـمُ
كم تَطْلُبُونَ لَنَـا عَيْبـاً فيُعجِزُكـمْ *** وَيَكْـرَهُ الله مـا تَأتُـونَ وَالكَـرَمُ
ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شَرَفِـي *** أنَـا الثّرَيّـا وَذانِ الشّيـبُ وَالهَـرَمُ
لَيْتَ الغَمَامَ الذي عنـدي صَواعِقُـهُ *** يُزيلُهُـنّ إلـى مَـنْ عِنْـدَهُ الدِّيَـمُ
أرَى النّـوَى يَقتَضينـي كلَّ مَرْحَلَـةٍ *** لا تَسْتَقِـلّ بِهَـا الوَخّـادَةُ الرُّسُـمُ
لَئِـنْ تَرَكْـنَ ضُمَيـراً عَنْ مَيامِنِنـا *** لَيَحْـدُثَـنّ لـمَنْ وَدّعْتُهُـمْ نَـدَمُ
إذا تَرَحّلْـتَ عن قَـوْمٍ وَقَد قَـدَرُوا *** أنْ لا تُفـارِقَهُـمْ فالرّاحِلـونَ هُـمُ
شَرُّ البِـلادِ مَكـانٌ لا صَديـقَ بِـهِ *** وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإنسـانُ ما يَصِـمُ
وَشَـرُّ ما قَنّصَتْـهُ رَاحَتـي قَنَـصٌ *** شُهْبُ البُـزاةِ سَـواءٌ فيهِ والرَّخَـمُ
بأيّ لَفْـظٍ تَقُـولُ الشّعْـرَ زِعْنِفَـةٌ *** تَجُوزُ عِنـدَكَ لا عُـرْبٌ وَلا عَجَـمُ
هَـذا عِتـابُـكَ إلاّ أنّـهُ مِـقَـةٌ *** قـد ضُمّـنَ الـدُّرَّ إلاّ أنّـهُ كَلِـمُ .
ومراد النفوس أصغر من أن *** نتعادى فيـه وأن نتـفانى
غير أن الفتى يُلاقي المنايـا *** كالحات، ولا يلاقي الهـوانا
ولـو أن الحياة تبقـى لحيٍّ *** لعددنا أضلـنا الشجـعانا
وإذا لم يكن من الموت بُـدٌّ *** فمن العجز ان تموت جبانا
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه*** و لكن من يبصر جفونك يعشق .
أغرك مني أن حبك قاتلي*** و أنك مهما تأمري القلب يفعل .
يهواك ما عشت القلب فإن أمت *** يتبع صداي صداك في الأقبر .
أنت النعيم لقلبي و العذاب له *** فما أمرّك في قلبي و أحلاك .
و ما عجبي موت المحبين في الهوى *** و لكن بقاء العاشقين عجيب .
لقد دب الهوى لك في فؤادي*** دبيب دم الحياة إلى عروقي .
خَليلَيَ فيما عشتما هل رأيتما *** قتيلا بكى من حب قاتله قبلي .
لو كان قلبي معي ما اخترت غيركم *** و لا رضيت سواكم في الهوى بدلا ً .
فياليت هذا الحب يعشق مرة*** فيعلم ما يلقى المحب من الهجر .
عيناكِ نازلتا القلوب فكلهـــــا*** إمـا جـريـح أو مـصـاب الـمـقـتــــلِ.
و إني لأهوى النوم في غير حينـه*** لـــعـل لـقـاء فـي الـمـنـام يـكون.
و لولا الهوى ما ذلّ في الأرض عاشـق*** ولـكن عـزيـز الـعاشـقـيـن ذلـيل.
نقل فؤادك حيث شئت من الهــــوى*** ما الــحـب إلا لـلـحـبـيــــب الأول.
قصيدة إذا غامرت في شرف مروم
المِثال الثاني والأكثر جمال فِي هذا الخضم هُو هَذِه القصيدة التي تَحمِل جُملة مِن الجمل الرائِعة، والعبارات السامقة الدامقة:
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ
فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ
كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
ستَبكي شَجوهَا فَرَسي ومُهري
صَفائحُ دَمْعُها ماءُ الجُسُومِ
قُرِينَ النّارَ ثمّ نَشَأنَ فيهَا
كمَا نَشأ العَذارَى في النّعيمِ
وفارَقْنَ الصّياقِلَ مُخْلَصاتٍ
وأيْديهَا كَثيراتُ الكُلُومِ
يرَى الجُبَناءُ أنّ العَجزَ عَقْلٌ
وتِلكَ خَديعَةُ الطّبعِ اللّئيمِ
وكلّ شَجاعَةٍ في المَرْءِ تُغني
ولا مِثلَ الشّجاعَةِ في الحَكيمِ
وكمْ من عائِبٍ قوْلاً صَحيحاً
وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السّقيمِ
ولكِنْ تأخُذُ الآذانُ مِنْهُ
على قَدَرِ القَرائحِ والعُلُومِ
قصيدة أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم
مواقِفٌ جَدِيرة بالجمال نقِف على حُسنها في هذه الواقعة بالذّات، حيثُ جُملةََ مِن المُفارقات الجميلة نخُصّها مع المتنبي كما يتّضح هنا:
أنا لائمي إنْ كنتُ وقتَ اللّوائِمِ
عَلِمتُ بما بي بَينَ تلكَ المَعالِمِ
ولَكِنّني مِمّا شُدِهْتُ مُتَيَّمٌ
كَسالٍ وقَلبي بائحٌ مثلُ كاتِمِ
وقَفْنا كأنّا كُلُّ وَجْدِ قُلُوبِنَا
تَمَكّنَ مِن أذْوادنا في القَوائِمِ
ودُسْنا بأخْفافِ المَطي تُرابَهَا
فَما زِلْتُ أستَشفي بلَثْمِ المَناسِمِ
دِيارُ اللّواتي دارُهُنّ عَزيزَةٌ
بِطُولَى القَنا يُحفَظنَ لا بالتّمائِمِ
حِسانُ التّثَنَّي يَنقُشُ الوَشْيُ مثلَهُ
إذا مِسْنَ في أجسامِهِنّ النّواعِمِ
ويَبسِمْنَ عَن دُرٍّ تَقَلَّدْنَ مثلَهُ
كأنّ التّراقي وُشّحَتْ بالمَباسِمِ
فما لي وللدّنْيا! طِلابي نُجومُها
ومَسعايَ منها في شُدوقِ الأراقِمِ
من الحِلمِ أنْ تَستَعمِلَ الجهلَ دونَه
إذا اتّسعتْ في الحِلمِ طُرْقُ المظالِمِ
وأنْ تَرِدَ الماءَ الذي شَطْرُهُ دَمٌ
فتُسقَى إذا لم يُسْقَ مَن لم يُزاحِمِ
ومَنْ عَرَفَ الأيّامَ مَعرِفتي بها
وبالنّاسِ رَوّى رُمحَهُ غيرَ راحِمِ
فَلَيسَ بمَرْحُومٍ إذا ظَفِروا بهِ ولا
في الرّدى الجاري عَلَيهم بآثِمِ
إذا صُلْتُ لم أترُكْ مَصالاً لفاتِكٍ
وإنْ قُلتُ لم أترُكْ مَقالاً لعالِمِ
وإلاّ فخانَتْني القَوافي وعاقَني
عنِ ابنِ عُبيدِالله ضُعْفُ العَزائِمِ
عَنِ المُقْتَني بَذْلَ التِّلادِ تِلادَهُ
ومُجْتَنِبِ البُخلِ اجتِنابَ المَحارِمِ
تَمَنّى أعاديهِ مَحَلَّ عُفاتِهِ
وتَحْسُدُ كَفّيْهِ ثِقالُ الغَمائِمِ
ولا يَتَلَقّى الحرْبَ إلاّ بمُهْجَةٍ
مُعَظَّمَةٍ مَذْخُورَةٍ للعَظائِمِ
وذي لجَبٍ لا ذو الجَناحِ أمَامَهُ
بنَاجٍ ولا الوَحشُ المُثارُ بسالِمِ
تَمُرّ عَلَيْهِ الشّمسُ وهْيَ ضَعيفَةٌ
تُطالِعُهُ من بَينِ رِيش القَشاعِمِ
إذا ضَوْؤُها لاقَى منَ الطّيرِ فُرْجَةً
تَدَوّرَ فَوْقَ البَيضِ مثلَ الدّراهِمِ
ويَخْفى عَلَيكَ الرّعدُ والبرْقُ فوْقَهُ
منَ اللّمعِ في حافاتِهِ والهَماهِمِ
أرَى دونَ ما بَينَ الفُراتِ وبَرْقَةٍ
ضِراباً يُمِشّي الخَيلَ فوْقَ الجماجمِ
وطَعنَ غَطارِيفٍ كأنّ أكُفّهُمْ
عَرَفنَ الرُّدَيْنِيّاتِ قبلَ المَعاصِمِ
حَمَتْهُ على الأعداءِ من كلّ جانبٍ
سُيوفُ بني طُغجَ بن جُفّ القَماقِمِ
هُمُ المُحسنونَ الكرَّ في حومةِ الوَغى
وأحْسَنُ منهُ كَرُّهُمْ في المَكارِمِ
وهم يحسنُونَ العَفْوَ عن كلّ مُذنبٍ
ويحتَمِلونَ الغُرْمَ عن كلّ غارِمِ
حَيِيّونَ إلاّ أنّهُمْ في نِزالِهِمْ
أقَلُّ حَيَاءً مِنْ شِفارِ الصّوارِمِ
ولَوْلا احتِقارُ الأُسدِ شَبّهتُهمْ بها
ولكِنّها مَعدودَةٌ في البَهائِمِ
سرَى النّوْمُ عني في سُرايَ إلى الذي
صَنائِعُهُ تَسرِي إلى كلّ نائِمِ
إلى مُطلِقِ الأسرَى ومُختَرِمِ العِدى
ومُشكي ذوي الشّكوَى ورَغمِ المُراغمِ
كريمٌ لَفَظتُ النّاسَ لمّا بَلَغْتُهُ
كأنّهُمُ ما جَفّ مِنْ زادِ قادِمِ
وكادَ سروري لا يَفي بنَدامَتي
على تَرْكِهِ في عُمْرِيَ المُتَقَادِمِ
وفارَقْتُ شرّ الأرْضِ أهْلاً وتُرْبَةً
بها عَلَوِيٌّ جَدُّهُ غيرُ هاشِمِ
بَلا الله حُسّادَ الأميرِ بحِلْمِهِ
وأجْلَسَهُ مِنهُمْ مكانَ العَمائِمِ
فإنّ لهمْ في سُرْعَةِ المَوْتِ راحَةً
وإنّ لهُمْ في العَيشِ حَزَّ الغَلاصِمِ
كأنّكَ ما جاوَدْتَ مَن بانَ جودُهُ
عَلَيكَ ولا قاوَمْتَ مَنْ لم تُقاوِمِ
قصيدة بم التعلل
هَذه القصيدة فيها الكثير من التّعلِيلات والتوضِيحات التي نَتناقَش على حُسن جمالها وقُوّتها، وفيصل الأمر منها كذلك:
بِمَ التّعَلّلُ لا أهْلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِنْ زَمَني ذا أنْ يُبَلّغَني
مَا لَيسَ يبْلُغُهُ من نَفسِهِ الزّمَنُ
لا تَلْقَ دَهْرَكَ إلاّ غَيرَ مُكتَرِثٍ
ما دامَ يَصْحَبُ فيهِ رُوحَكَ البَدنُ
فَمَا يُديمُ سُرُورٌ ما سُرِرْتَ بِهِ
وَلا يَرُدّ عَلَيكَ الفَائِتَ الحَزَنُ
مِمّا أضَرّ بأهْلِ العِشْقِ أنّهُمُ
هَوَوا وَمَا عَرَفُوا الدّنْيَا وَما فطِنوا
تَفنى عُيُونُهُمُ دَمْعاً وَأنْفُسُهُمْ
في إثْرِ كُلّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ
تَحَمّلُوا حَمَلَتْكُمْ كلُّ ناجِيَةٍ
فكُلُّ بَينٍ عَليّ اليَوْمَ مُؤتَمَنُ
ما في هَوَادِجِكم من مُهجتي عِوَضٌ
إنْ مُتُّ شَوْقاً وَلا فيها لهَا ثَمَنُ
يَا مَنْ نُعيتُ على بُعْدٍ بمَجْلِسِهِ
كُلٌّ بمَا زَعَمَ النّاعونَ مُرْتَهَنُ
كمْ قد قُتِلتُ وكم قد متُّ عندَكُمُ
ثمّ انتَفَضْتُ فزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ
قد كانَ شاهَدَ دَفني قَبلَ قولهِمِ
جَماعَةٌ ثمّ ماتُوا قبلَ مَن دَفَنوا
مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ
تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ
رَأيتُكُم لا يَصُونُ العِرْضَ جارُكمُ
وَلا يَدِرُّ على مَرْعاكُمُ اللّبَنُ
جَزاءُ كُلّ قَرِيبٍ مِنكُمُ مَلَلٌ
وَحَظُّ كُلّ مُحِبٍّ منكُمُ ضَغَنُ
وَتَغضَبُونَ على مَنْ نَالَ رِفْدَكُمُ
حتّى يُعاقِبَهُ التّنغيصُ وَالمِنَنُ
فَغَادَرَ الهَجْرُ ما بَيني وَبينَكُمُ
يَهماءَ تكذِبُ فيها العَينُ وَالأُذُنُ
تَحْبُو الرّوَاسِمُ مِن بَعدِ الرّسيمِ بهَا
وَتَسألُ الأرْضَ عن أخفافِها الثَّفِنُ
إنّي أُصَاحِبُ حِلمي وَهْوَ بي كَرَمٌ
وَلا أُصاحِبُ حِلمي وَهوَ بي جُبُنُ
وَلا أُقيمُ على مَالٍ أذِلُّ بِهِ
وَلا ألَذُّ بِمَا عِرْضِي بِهِ دَرِنُ
سَهِرْتُ بَعد رَحيلي وَحشَةً لكُمُ
ثمّ استَمَرّ مريري وَارْعَوَى الوَسَنُ
وَإنْ بُلِيتُ بوُدٍّ مِثْلِ وُدّكُمُ
فإنّني بفِراقٍ مِثْلِهِ قَمِنُ
أبْلى الأجِلّةَ مُهْري عِندَ غَيرِكُمُ
وَبُدِّلَ العُذْرُ بالفُسطاطِ وَالرّسَنُ
عندَ الهُمامِ أبي المِسكِ الذي غرِقَتْ
في جُودِهِ مُضَرُ الحَمراءِ وَاليَمَنُ
وَإنْ تأخّرَ عَنّي بَعضُ مَوْعِدِهِ
فَمَا تَأخَّرُ آمَالي وَلا تَهِنُ
هُوَ الوَفيُّ وَلَكِنّي ذَكَرْتُ لَهُ
مَوَدّةً فَهْوَ يَبْلُوهَا وَيَمْتَحِنُ
وفاة المتنبي
كَما نهاية كُل إنسان وَردت نِهاية المتنبي، ولكِن الجَمِيل في هذا الأمر هُو أنّ المتنبي قتل نفسه بنفسه بطريقة غَير مُباشرة، حيث وعِندما كَان المُتنبّي عائدًا إلى الكوفة، كان هُناك جماعة مِنهم ابنه محمد وغلامه مفلح، لقيه فاتك بن أبي جهل الأسدي وكان في جماعة أيضًا. فتقاتل الفريقان وعندما ظَفر به فاتك أراد الهرب فقال له غلامه : اتهرب وأنت القائل : الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم، فرد عليه بقوله قتلتني قتلك الله، وقُتل المتنبي وابنه محمد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من ديرالعاقول غربيّ بغداد.