قَد يطلُب المُدرّس موضوع تعبير عن التأثير والتأثر في الشعر العربي دون إبداء أي أسباب لِذَلك، هنا نَستحدِث الكثير من العبارات الشّعرية والخواطر الأدبيّة التي لَها الكثير من القُوّة والكَثِير مِن الدّهاليز التِي نَودّ أن نَضع فِيها الكثير والمَزيد مِن إجماليّات الأمر المتابع من قبلنا حَول الشعر والشعراء والأدباء، حيثُ القُبّعة السُّوداء لا تزال تدل على الشاعل والغليون يدل عَلى الأدب والكتابة المُبسّطة والمُعقّدة، ولكِن مَا دهى ذاك الباحث عَن التّأثر بِما يكتُبه الشعر العربي، وما التّأثير الذي يُحدثه الباحث على الشاعر وكتاباته، ولذَلِك كان طلب موضوع تعبير عن التأثير والتأثر في الشعر العربي من قبل المدرس للطالب مهمّ للغاية.

حول موضوع تعبير عن التاثير والتاثر في الشعر العربي

كَبِيرة دَرجة الإهتِمَام بِالشّعر والتّأثِير بِه والتّأثير، ولا ضَير فِي التّعرف على هذه الدرجة من ذاك الصدى والتغذية الرجعية الحاصلة بهذا المعترك، ومِنَ المعْروفِ أَنَّ الأدَبَ عَبرَ تارِيخه كانَ أَحَد الوَسَائِل الهَـامَّة للتَّـعبيرِ عن ثَقافاتِ الشُّعوب، وتَسْجيل ما عَصَف بها مِن أحداثٍ، وما مرَّ بـِها من فَتَراتِ حُروبٍ أو رَخاءٍ، وليسَ الأمر تسجيلاً تاريخيًّا بقدر ما هو تعبير دقيق عَن حياةِ الشعوبِ وتقاليد مجتمعاتها في أزمنة بعينها، فكيف كان للعربيِّ المُـعَاصرِ أن يعرف – مثلاً – تقاليد المديح والهِجاء، والغَزلِ والنَّسيب عند العرَبِ القُدَماء، لولا ديوانُ الشِّعر الجاهِلي الذي نُقِلَ إلينا عبْرَ خمسةَ عشَر قرنًا من الزَّمان؟

لا سيّما فِي هَذا الخِضم وإنّ هذا الدَّور على أهمِّيته – في رأيي – قد يتَضَاءل أمَامَ دَورٍ آخر لعبه الأدب في تحريكِ الشعوب، وإيقاظِ الثَّورات، وإصلاح الناس بأسلوبٍ لطيفٍ غير مباشر يحبونه، سواء كان هذا عَبْرَ رَمزٍ في رِواية يَتحايلُ به الكَاتب على حُكمٍ جائرٍ يمنعه مِن قولِ الحق، أو عَبْر مناقَشَةٍ لسَلبياتِ المجتمع ونقاط ضَعْفه بهدف الإصلاح، أو حتى عبْرَ مقالٍ مباشرٍ فـي جَريدةٍ أو مَطبوعةٍ، ففهرس نوع أدبي بدوره، لكنَّها – هَذه الأنواع كُلها – تَصبُّ في النِّهايةِ في بَوتَقَةِ واحِدةِ، وهي الامتزاج بالمجتمع والشُّعوب، والتأثيرُ فِيها والتأثرُ بها، وقَد يخْتَلِفُ رَأي مـُحْتَرَمٌ آخر يَرى أن تَحميلَ الأنواعِ الأدَبيةِ أو الإبداعِية أهدافًا إصلاحية محدَّدَة – هُو مزَايدة لا تَحْتَمِلها، وَيَرى أن الهَدَفَ الأَوَّلَ للإبداعِ الفَنـِّي أو الأدَبي هـو الإمتاع والتَّسْلِية البريئة لا أكثر، عبْرَ قِصَّة مشوِّقة أو قَصيدة جَمِيلة، لا يُشْتَرَط أن تَكونَ مُصْلِحةً أو هادفة جدًّا إذا خَلَتْ مِنَ الإسْفَاف، وهُو رَأيٌ مُعْتَبَرٌ وإنِ اخْتَلَفْنَا مَعه، ويُمكِنُنا أن نَرى في أوروبا الآن حَفَلاتِ قِراءة – يحضرها عَشَرَاتُ الآلافِ أحيانًا – تُعقَدُ لكَاتِبِ قِصَصٍ بوليسية أو لكاتبة تكتب الروايات الخيالية، وهي كِتَابَاتٌ تهَدفُ للإمْتاع لا غير، وتُلاقي رواجًا مذهلاً في الغرب، وفي دول الشرق أيضًا عِنْد تَرجمَتها، في ذاتِ الوقت لا يفوتُنَا أن نَذْكر أن كاتبًا سياسيًّا أو مدربًا لتنمية القدرات الذاتية مثلاً، قَد يَكتب كتابًا يرفـعه مِن مَصَافِّ الكتَّابِ المَغْمورين، ليجْعله بين طَرْفَةِ عَينٍ وانتباهَتِها نجمًا مِن نُجومِ المجتمع، يَتَسَابَقُ الجَمِيع لشِراء مَا يَكْتبُه، بَل وأكثر من هذا، من أصْحَابِ المَلايين.

التاثير والتاثر في الشعر العربي

المَنطِقَة العَربيّة كَانت سبّاقة مُنذ القِدَم فِي خُصوصيّات وشُموليّات الشِّعر والكتابة والتعبير، بل إنها التُّربة الخصة لهذا الأمر، وهو الأدب الذي يستشِيط نفعاََ، حيث وإذا انتَقَلْنا إلى أدبنا العَرَبي في الزمن الحالي، فلن يصعب عَلَينا أن ندرك آسفين، ويدرك معنا كُلَّ متابِعٍ مُدقِّق مَدى تِلكَ الهوة الكبيرة التي باتت تتسع بمرور الزمن، ما بين نخبة من المثقفين والأدباء من جهة، و عموم الناسِ من جِهة أخرى، فنرى النَّدوات الأدبية لا يحضرها إلاَّ عدد قليل جدًّا قد لا يتجاوز أحيانًا عدد أصابع اليدين، نرى ندوات شِعْرٍ لا يَحْضُرُها إلا أصْدِقاء الشَّاعِر، وبعض العَامِلين في المكان، وقِلَّة قليلة من المهتمين بالمجال الأدبي أو الشعر، قد يشذُّ عن هذا بعض الشعراء الكبار أو المشاهير الذين يحضر لهم محبوهم، فَيَصل عَدَدُ الحُضورِ إلى مائة أو مائتين مثلاً، ولكنه في ذَات الوَقْت يبقى عَدَدًا قليلاً جدًّا، إذا ما قُورِن بعدد الحضور لمغنٍّ أو مغنيةٍ، يتَغنَّيان بِكل مُسفٍّ من الكَلمات والألحان، وأيضًا تبقى المقارنة مخجلةً إذا ما وَضَعنا في الحُسبان ذلك الحُضور الهائل والرواج الرَّهيب الذي تَلقاه حَفَلات القِراءةِ في الغَرب التي أشرنا إليها سلفًا، والتي تكون ليس للشعراء فقط، بل للكتاب والروائيين أيضًا.

ونبقى على الأمد متناهين في الأهمية حيث نُذَكِّرُ أن هذا الوَضْع الأدَبي بين الغَرْب والشَّرق ليسَ طَبيعيًّا؛ بل هو عَلى العَكْسِ تمامًا مما هو مُفْتَرَض ومتوقع، فالتَّجربة الأدَبيَّة العربيَّة تُعَد إضافَة إلى جَوْدَتها مِن أعْرَق وأقدم الكِتَابات الأدَبِيَّة بين كل لغات العالم أجمع، وديوان الشِّعْرِ العَرَبي، لا يُقارن مطلقًا بأي ديوان شعر آخر، سواء الشعر الفرنسي أم الإنجليزي؛ لذا فينبغي أن يكون الأدَب العَربي عَلى أقل تقديرٍ على مُسْتَوى تاريخه وأصالة تجربته، فضلاً عن أهمية أن يضيف إليها.

وكلّما إزدَاد الاهتمام زاد مَعه التّأثر والتأثير بما يتم كتابته في معاجم الشعر، حيثُ إذا ابتعَدنا عن الندوات الخاوية والأمْسِيَّات الشِّعْرية التي لا يحضُرها أحد تقريبًا، فَماذا إذًا عن المطبوعات المعنيَّة بالأدَب، أو الأعمال الأدَبِيَّة ذَاتها؛ كَدَوَاوينِ شِعْرٍ، أو مَجْمُوعَات قصصية… إلخ؟ هل يمكن مُقَارَنَتُها بِمَبِيعَاتِ مَجَلة هَابِطة، لا تَنْشُر سِوى أخبار وصور الفنانين والرَّاقِصِين، رغم أنَّها في حقيقة الحال أخبارٌ لا تَهم أحدًا من المشْتَرين على وجه الإطلاق؛ لكن وسائل الإعلام دأبت على تصويرها لنا عَلى أنها الأحْداث الجِسَام، والوقائع الأهم في حَياة البَشَر، فَصَارَت أَخْبَارُ مغنيَّة معيَّنة، أو حَفْلُ زِفَاف مطرب حدثًا هامًّا يَتَسابَقُ الجَميع لمعرفة المزيد عنه، ومادةً رائجة للبيع، إنَّ هذا الوضع المزري للأدب، والذي يَنْدَى له جبينُ أيِّ منصفٍ لحريٌّ بالدِّراسَة ومُحاولات الحل وتجاوز الأزمة؛ لكنَّه – عَلى الرَّغْم مِن هَذا – يلقى تجاهلاً تامًّا، بل وفضَّل بعض المثقفين والأدباء الانغلاق على أَنفسهم والتَّقوقع حول ذواتهِم، وسمعنا في النهايةِ هَذا اللَّفظ العجيب “الوسط الأدبي”، والذي ينفصل كل الانفصال عَن رَجُل الشَّارع، كأنَّ للأدب وَسَطًا معينًا بأشخاص معينين وآليات مُعينة، لا يتجاوزها، كأنَّه ليسَ شيئًا مُختلطًا بالشعوب، ومُوجهًا إليها بالأسَاس، متأثرًا بها ومُؤثرًا فيها.

ولا نترك المعترك في ضبابه بل نوضّحه ونضع له أركانَه السّامِقة والدّامِقَة التي نتهافت عليها، ونُشِير أنّه سوف نُحاوِلُ معًا في عُجالة سَريعة حَصْرَ بَعض أسباب هذا الانفصال غير الصحيِّ مَا بَيْن الأدب و”رَجُلِ الشَّارع”، كما يروق لبعض “النخبة” أن يُطلقوا عليه، قاصدين فَرْدَ عُموم الشَّعب العادي، وغَير المهتم في الغَالب بالأدب ولا بالإبداع بِشَكل عَام، وفي البداية يجب أن نقول: إنَّه وإن كانت المسؤولية الكُبرى تقع على كاهِل الأدباء والكُتَّاب أنفسهم في كونهم لا يهتمون اهتمامًا مناسبًا بتوصيل أدبهم للناس، فإن هناك أيضًا جزءًا من المسؤولية يقع على كاهل الفرد، والحُكومات، والظُّروف الاقتصاديَّة؛ لكِنَّها عَلى كُلِّ حَالٍ أسْباب من السهل حلها إذا ما وضعنا يدنا عليها برفق، وحاولنا زحزحتها برويَّة، وهي أسباب تَنْقَسِم بشكل أكبر قسمين: ما يتعلق بالكاتب وما يقدمه وظروفه، وما يتعلق بالقارئ وظروفه.

تأثير الشعر العربي في الادب الغربي

كان العَرب سبّاقين حتّى الثّمالى فِي كُل مَجال، وفِي غُضون سيطَرة العرب على الأندلس ظَهر الكثير من الكُتّاب والشعراء والباحثين والمُهتمّين بهذا الأمر، وهُو أمر الشعر والتأثير بِه عَلى سَائِر الأقوام، حيثُ أنّ مِن مسائل الأدب المقارن التي شغلت أفكار المستعربين والعلماء الاختصاصِيّن في تاريخ الآداب الرومانية (وهي آداب اللغات المتولدة عن اللاتينية) قضية ظهور الشِّعر البروفنصالي في القرون الوسطى  بشكله الذي لا يشبه الشعر اللاتيني لا في عروضَه ولا في المواضيع التي يطرقها.

كما ومن المعلوم أن الأدَب في أوربا في القرون الوسطى كان منحصرََا في الأديرة والمدارس الدينية، وكانت اللغة التي يؤلف بها الرّهبان أذكارهم وأدعيتِهم هي اللغة اللاتينية وإن كانت قد فقدت إذاك صفاءها ومُميّزاتها  الأصلية حتى صَارت تدعى “لاتينية الكنيسة”، ومنهم من ينبزها بهذا التعبير “لاتينيّة المطبخ”، وكانت الشّعوب اللاتينية المختلفة التي تكونت من قدماء الرومانيين الفاتحين ومِن أهل البلاد الأصليين تتكلم لغات أصلها لاتيني ولكنها ابتعدت بعدا كبيرا عن اللغة الأم بِتَأثيرات اللغات القديمة من سلتيه وإيبرية  وغيرهما، وتولدت عن هذا المزيج لغات جديدة تدعى رومانية لتمييزها عن اللغة اللاتينية الفصحى، وأخذ رجال الشعب ينظمون الشعر باللغة التي يتكلمونها على غرار ما كان يفعله الشعراء الزجالون بالأندلس وشعراء الملحون عندنا بالمغرب.
وكان هؤلاء الشعراء الشعبيون في جنوبي فرنسا يدعون تروبادور TROUBADOURS   أي “الواجدون”، بمعنى الذين يحسون ويشعرون (من الوجدان)، وكانوا ينظمون شعرهم باللغة البروفنصالية، وهي إحدى اللغات الرومانية المتولدة عن اللاتينية، وكانوا في نقس  الوقت مغنين وموسيقيين يؤلفون أجواقا تقصد قصور الأمراء وبيوت الأكابر لتسليتهم ومدحهم، ووقع إقبال كبير على هذا النوع من الأدب الجديد، وأخذ الأدباء حتى من طبقات الأمراء ينظمون الشعر في هذه اللغة الشعبية وعلى طريقة “الواجدين” .
ولكن الشّيء الجَدِيد الِذي يُلاحَظ هُو أنّ شَكل هذا الشعر البروفنصالي، وموضوعه لم يتقدّم لَهُما نَظِير من قبل، فمِن حَيثُ المَوضُوع ترى أن الغرام الذِي يصفه التروبادور هو عاطفة سامية عذرية رقيقة أشبه بشعر العذريين أو الصوفيين المسلمين، ومن حيث الشكل ظهرت في عروض الشّعر البروفنصالي القافية وترتيبها على نحو أزجال الأندلس، فمن هُنا أخذ المشتغلون بهذه الدراسات يبحثون عن وجوه الشبه بين هذا الشعر والشعر العربي بالأندلس.

وبسرعة بديهة لا سبيل لتكرارها فقد كان للمستعرب الاسباني الكبير خوليان ربيرا الفضل في إظهار وجوه الشبه هذه مما أداه إلى قولته الشهيرة وهي” أن الزجل يعتبر المفتاح السحري الذي يشرح لنا أساليب الأشكال الشعرية في مختلف الطرائق الغنائية عند الشعوب المتحضرة في القرون الوسطى”، وقد ارتكز ريبيرا في حكمه هذا الذي أخذ به كثير من المستعربين والمختصين في الرومانيات على دراسته للشعراء الواجدين أمثال جوفر روديل   JAUFRE RUDEL وسيركامون CERCAMON والكونت دي بوانيي وغيرهم، وقد لاحظ ربيرا والعلماء الذين درسوا هذه المسألة أن قصائد التروبادور تتركب من قطع (أو أقسام كما يعبر عنها شعراء الملحون عندنا)، لكل قطعة تحتوي على أربعة أبيات يكون للثلاثة الأولى منها قافية واحدة تختلف من قسم للقسم الآخر وقافية البيت الرابع تتكرر في أقسام القصيدة على هذا النحو ا ا ا ب، وهذا النظام لا نجده في الشعر اللاتيني، وهو نفسه الذي نراه في الأزجال الأندلسية كما سنمثل له من بعد.

نستمر في ذلك الخضم لنؤكّد أنّ لِكُل قصيدة لازمة (أي الحربة كما عند شعراء الملحون) تدعى عند الشعراء التروبادور TORNADA، وهي كذلك في أزجال أهل الأندلس، والقصيدة تتركب من خمسَة أقسام إلى تسعة كما هو الشأن أيضا في الأزجال الأندلسية، (كل هذه المشابهَات تَرجع إلى الشكل الجديد الذي ظهر في شعر التروبادور من حيث العروض وتركيب القصَائِد، ولكن هناك مشابهات أخرى ترجع لصلب المواضيع الشعرية التي يطرقها الشعراء «الواجدون»، وهي في أغلبها ترجع للحب ولمدح الأمراء، ومن خصائص هذه العواطف أنّها مثل ما نراه عند الشعراء العرب، وبالتالي عند أهل الأندلس، تتولد أحيانََا عن مجرد نظرة سَاحِرة، ويتفنن التروبادور في وصف هذه النظرات ويصفون المحبوب بالقسوة والتِيه والدلال ممّا يُسبّب للعاشق الولهان آلاما تتجلى في البكاء والسهر والنحول والذُّهول، وربما أدت به إلى الموت، هذه الصفات شيء عادي في الأدب العربي ولم يَكًن له مقابل في الشعر اللاتيني الذي كان هو الأدب الوحيد الذي يُمكن أن يقتبس مِنه التروبادور.

ولنبقى على بيادر التّوضيح، حيثُ ومِن وُجوه الشبه أيضََا أنّ العاشق في شعر التروبادور يستعمل الرسل بينه وبين معشوقه، ونَراه يتكلّم عَلى الرقيب وعلى الواشي مثلما نراه فِي الشعر العربي عموما وفي الأزجال والملحون بوجه خاص، والرقيب المسمى الحراز في الملحون يلعب دورََا مُهمََّا حتى أن شعراء الملحون عندنا ينظمون قصائد خاصة في وصف هذا الرقيب العنيد، ومن الملاحظ كذلك أن الجو الذي يحيط بالشعر البروفنصالي هو جو الطبيعة الضاحكة المزدهية بأزهارها المتفتحة الذكية وأطيارها المغنية الشادية وجداولها المترقرقة المنسابة تحت الأشجار الباسقة كأن الحياة كلها ربيع لا ينقطع، وهذا الجو الشعري نعرفه كذلك عند شعراء الأندلس في تواشيحهم وأزجالهم، وكل هذه المشابهات جعلت ربيرا ونيكل التشيكي وبيدال الاسباني وأبيل المختص في الدراسات الرومانية يؤمنون بأن التأثير العربي الأندلسي في شعر التروبادور هو تأثير عميق مباشر، وقد عارضهم بعض النقاد من الاختصاصيين في الرومانيات، وجرت مناقشات في المجلات المختصة بين الفريقين ولكن قوة حجج مدرسة ربيرا كان لها التفوق.

ونبقى على ساقة المذهب الأدبي وتشريعاته التي نتهافت عليها ونجد على قوتها التي لا مثيل لها لنجد ما يلي: (وكانت أهم الانتقادات الموجهة لتأثير الشعر العربي في الشعر البروفنصالي هي أن التروبادور لم يكونوا يحسنون العربية، فكيف أمكنهم أن يتأثروا بالإنتاجات الشعرية العربية؟ والجواب عن هذا الاعتراض هو أن الحالة الاجتماعية في الأندلس، من انتشار الثقافة العربية بين المسيحيين، وتقليدهم للعرب في كل شؤونهم، حتى تكونت طبقة منهم تدعى mozarabes أي المستعربين، تعيش في كل شيء حياة عربية، حتى أنهم كانوا يستعملون العربية في صلواتهم وينظمون الشعر بالعربية، وهم في نفس الوقت يعرفون اللغة الإيبرية الرومانية أخت البروفنصالية، وهم كانوا الواسطة بينهم وبين أبناء جلدتهم ممن لا يحسنون العربية، وكانوا يترجمون الآثار الشعرية خصوصا الشعبية منها إلى لغتهم، وكان التروبادور من جيرانهم من وراء جبال البرتات (البريني) يقصدون قلاع الأمراء المسيحيين ويغنون لهم أشعارهم ويسمعون كذلك ما عند زملائهم، وهناك اطلعوا على الأساليب العربية عند سماعهم لطرب الزجالين، ولا ننسى أن الزجل هو في نفس الوقت شعر وموسيقى كما هو الشأن في الملحون وكما كان الأمر عند التروبادور.
ومن الانتقادات الموجهة كذلك لنظرية تأثير الشعر العربي في الشعر البروفنصالي أن أهم شاعر زجال من أهل الأندلس يرتكز عليه أصحاب هذه النظرية لتعضيدها هو ابن قزمان، ومواضيع شعره بعيدة عن الروح العذرية وعن الحب السامي الذي نراه عند التروبادور، والجواب عن هذا الاعتراض الوجيه هو أن اهتمام نيكل وغيرم من المشتعلين بهذا الموضوع بديوان بن قزمان يرجع قبل كل شيء للناحية العروضية من جهة، ثم لوجوه الشبه الأخرى التي أشرنا إليها من جهة أخرى، على أن هذا الديوان لا يخلو أحيانا من بعض القصائد والمقطعات التي تسودها تلك الروح الطاهرة التي يمتاز بها شعر العذريين، ثم إن أحدا لم يقل بوقف التأثير العربي في الشعر الغربي على ابن قزمان، ولا يلزم أن يكون المستعربون  mozarabesمن الاسبانيين ولا التروبادور اطلعوا بالخصوص على ديوان ابن قزمان، وكان بالأندلس زجالون كثيرون دون ابن قزمان، وإنما الشاعر ساعده الحظ بأن حوفظ لنا على نسخة فريدة من ديوانه بإحدى خزانات روسيا، قام بنشر صورة فوتوغرافية لها أحد المستشرقين ببرلين سنة 1896، وكان هذا الديوان أول ما عرفه المستعربون من الإنتاجات الزجلية الأندلسية، وهو الذي أوحى بهذه المشابهات التي لا يمكن أن تكون نتيجة صدفة، وللتمثيل لذلك من ناحية العروض إليك هذه القطعة من قصيدة للكونت دي بوانيي.

,,PUS DE CHANTAR M,ES PRES TALENS
FARAI UN VERS DUN SUI DOLENS
NON SERAI MAIS OBEDIENS
DE PEYTAN NI DE LEMAZI’’

وها هنا وبكل ثقة وتوجس نَجِد أنّ الشَّاهد فِيها أن القوافي الثلاث الأولى كُلّها هَكذا ENS والقافية الرّابعة ZI تتكرّر فِي كُل القَصِيدة عَلى نَحو هذه القطعة من قصيدة لابن قزمان:
وكن لمرسولي قريب الحجاب
وإن كان وترضى وترسل كتاب
بدمي نسطر لك الجواب
ونبرى عظامي مكان القلم
وكذلك هذه القطعة من قصيدة أخرى له:
لم يعطي الله أحدا ما عطى لك
ليس في النسا زينة بحالك
ثلاثة في الخلقة من خصالك
بيضا ونقية ووفية

ولنَصِل إلى النّقطة الأهم في هذا الخضم، حيثُ ومَا دام الغَزو الثقافي العربي بلغ هذه الدرجة التي ندّد بها الأسقف الباره بِهَذا الحماس، فهل يستبعد هذا التأثير الذي ذكرناه والذي يقول به اليوم أكثر العلماء الاختصاصيين في هذا الموضوع؟
أجل هنا الجواب يستكمل النسق لنجد أن تأتير الحضَارة العربية في الغرب، من حيث العلوم النظرية والعقلية من منطق وفلسفة ولاهوت، ومِن حيثُ العلوم الرياضية من حساب وجبر وهندسة وفلك وتعديل، ومن حيث العلوم الطبيعية من فيزياء وكيمياء وحيوان ونبات، كل هذا معروف مدروس قد وضعت فيه المجلدات في مختلف اللغات الحية، وأما تأثير الأدب العربي في الآداب الغربية فهو أمر لم يتعد بعد أوساط بعض الاختصاصيين، لذلك أردت أن ألفت إليه أنظار الباحثين والمثقفين وهو باب مهم من تاريخ الحضارة العربية وإشعاعها في العالم المتمدن ومساهمتها في النهضة الأدبية بأوروبا.

نتاج التأثر والتأثير

التأثر والتأثير واحد من النتائج التي نَراها ماكِثة بِكُلّ قُوّة وشَغف على دائرة الإهتمام بكل حيثيات التوجُّس والإهتمام بأشكالها المُتعدّدة وما فيها من تشابه وإختلاف، حيث وبعد أن عرضنا الأسباب والمسببات الرئيسة في حال الأدب وابتعاده عن الناس تأثيرًا وتأثرًا، قد يتساءل البعض: هل من مخرج من هذه الدوامة التي يتبادلها القارئ والكاتب؟ والإجابة: نعم بإذن الله؛ إذ غنيٌّ عن القولِ أن البدء في مُحاولة حل المشاكل التي أوردناها سلفًا كفيلٌ وحدَه برفع مستوى ثقافة القارئ العادي، والاندِمَاج أكثر بين الأدَبَاءِ والنَّاس، والترويج الحقيقي للأدب؛ ولكنَّنَا نُنَوِّه أيضًا إلى أنَّه في الفترة الأخِيرة جَرَت مُحَاوَلات جَيِّدة للربط بين الأدب وبين شاشة التلفزيون مثلاً، فرأينا برامجَ تهتم بأعمال الأدباء والكتاب، وأمسيات شعرية تعرض على الهواء مُباشرة، وقنوات فضائية تُصَور حَفْلَ تَوقِيعٍ لِكَاتب أو شَاعر، أو أمسية أدَبية أو فِكرية، إضافةً إلى المسَابَقات الراقية التي تقوم بها عدة دول عربية لتشجيع المبدعين، وإعطائهم التقدير الكافي الذي يليقُ بهم، كل هَذِه المجهُوداتِ الطيِّبة تُشير إلى مستقبل أفْضَل للأدب.

لنبقى في توجسات ذلك، حيث إذ إنَّها وفي أثْنَاء وصُولها للمجتمع بعيدًا عن النَّدوات المغْلقة، فإنها تعطي الأمل للأديب في نتيجة مرضية لِمَا يقوم به، والتقدير المادي والأدبي لما يكتبه، بعد أنْ كاد ييأس من أمور كهذه، صَحيح أن هُناك أصواتًا تعالت منددة بهذه الأمور، وقائلة بأنَّها تقلل من قيمة الأدب؛ إذ إنَّ الأدَبَ يُكْتَب مِن أجل الأدَبِ، وليسَ من أجْل مُسَابقة تقدَّر قِيمة جائزتها بالشيء الكثير، لكنني في هذا الوقت أرى أنَّها وإن لم تفد كاتبًا بشيء أو ترقى بالمسْتَوى العَام، فإنَّها تمثِّل تشجيعًا كافيًا للكتاب، وفي النِّهاية: فإنَّ الكاتب الجيِّد، والعَمَل الحَقِيقِي المَخْلوطَ بِمَا يَنْفع مِن فائدة، وما يمتع من تَسْلية – لسوف يفرض نفسه الآن، أو في آن آتٍ.